كانت رائحة الطين المجبول بقش التبن عصرأ ، تفوح منه رائحة نفاذة تشبه بول البقر ،
تصل الرائحة شبابيك البيوت القريبة من دار "مطاوع " كان مطاوع يجبل الطين بالتبن كل يومين او ثلاثة ، الطين المجبول المختمر، يعيد خلطه وعجنه لصبه في قوالب طوب ،للبيع لبناء غرفٍ في المخيم بدلا من الخيام الممزقة المهترئة .
كان " مطاوع " نحيل الجسم ، يلف رأسه ووجهه صيفأ وشتاءأ بكوفية منقطة لا يُعرف لها لون من اتساخها ببقع الطين ، وحبات العرق المندلق تحت الكوفية ، ينتعل في رجليه جزمة طويلة ، تصل فوهتها الى ركبتيّه تتسرب منها رائحة غريبة اقوى من رائحة بول البقر وروثه ،كفُّ يده اليمنى لا يفتحها ، لا يتحرك منها سوى ابهامه ، كان "مطاوع " يصب الطين بالقوالب عند الفجر، وَيصُفُّ الطوب بعد جفافه ،في أسطر متتابعة طوبة ً طوبة ، لا يساعده في عمله الشاق سوى ابنه ( احمد) وحيد والديه ، جرب الشقاء مع والده من طفولته الهشة، التي بدأت مع الطين والطوب ، البيت على مسافة امتار من تل عجينة الطين ، ساحته الامامية وغرفة منه مكدسة بأكياس التبن ، يلهو احمد ويلعب فوق الاكياس، حتى ينتهي والده من صبِ الطوب ، يسرق احمد النظر بين الاكياس الى صبيان الحارة بلهفة للعب معهم ، او مرافقتهم الى المقبرة المجاورة لبيوتهم لنصب افخاخهم للايقاع بالعصافير والقبرات ، كانت ملابس احمد دومأ متسخة ببقع الطين الجاف ، يخجل منها حين يرى سروايل وقمصان صبيان الحارة النظيفة ، يتوارى عنهم، ويختبىء بين اكياس التبن ، يصرخ عليه والده ليناوله كيسأ من التبن لرشه على الطين ، واحيانأ يصيح عليه لاحضار دلو ِ ماء لزيادة الخلطة ليونة ولزوجة ، يقضي احمد يومه بين حمل اكياس التبن ومناولة دلاء الماء وصف الطوب الجاف .
تدرج احمد من الصبا الى الشباب ، ومدرسة المخيم غير بعيدة عن داره ، يعرفه اولاد صفه انه ابن " مطاوع " وكلما تقدمت به الايام يلفه الخجل ويتاكل من الداخل ، يتعمق في داخله شرخ طويل لحياة بائسة ، بدأ يعي قسوتها مبكرأ، تعمق الشرخ كغورٍ سحيق في نفسه لعجز والدته المصابة بشلل نصفي ، فكها ملتو ٍلا تحسن معه الكلام ، والعرج في رجلها اليسرى اقعدها عن المشي ، لا تقوَ على خدمة والده او معاونته في عمله ، كان "مطاوع"بعد عجن الطين وصبه ، يشتغل في تحضير الطعام لزوجته وابنه ، يشعل النار في تنكة مستطيلة مكشوفة من اعلاها ، يملأها حطبأ وخشبأ ، يتطاير منها الدخان والشرر والسناج الاسود ، يخلع جزمته من رجليه فتفوح منها رائحة اشبه برائحة حفرة امتصاصية، تزكم انف احمد وامه ، يفر احمد هاربأ ، يعتلي اكياس التبن حتى تنتهي سحابة تلك الرائحة النتنة ، التي تغزوهم كل ليلة ، يضع مطاوع دلو الماء لتسخينه على تنكة النار بعد ان يهدأ لهيبها ودخانها، ليزيل الطين عن يديه ورائحة رجليه ، يلتصق السناج المتطاير من السنة اللهب، بجدران الغرفة وسقفها حتى تبدو كأنها متشحة من داخلها بالسواد، من ارضيتها حتى سقفها حتى عيدان القصب في السقف تبدو كقضبان من الفحم .
تربى احمد بين الطين والتبن والسناج ، يخالجه الحزن ويعصر قلبه حال والديه ، اليأس تسلل الى نفسه كلص ٍ يومأ بعد يوم ، يتضخم وينخر أعماقه بمزيد من ألآسى المتشكل كقوالب الطوب ، واصل احمد الذهاب للمدرسة بتردد وعلى خجل ، تفهمت المدرسة حالة احمد واحواله ،حتى تخرج منها بصعوبة، وحصل على معدل متدن ٍ في الثانوية العامة ، أصر "مطاوع" على تعليم ابنه ، حتى لا تجور عليه الايام ،وحتى لا يعمل بالطين والطوب ، صمم على تعليمه في الجامعة ، فرِحَ "مطاوع " لسفر ابنه الى مصر والتحاقة باحدى جامعاتها ، وأشاع بين جيرانه ان احمد فرّج الله همّه وسجّل بالجامعة ، وانه سيدعمه ولو افنى ما تبقى من عمره في عجن الطين وصب الطوب ليلأ ونهارأ ، يرسل لابنه ما أستطاع وتيسر من دنانير قليلة ،عاش احمد في غربته على التقشف ،كما إزدادت حياة "مطاوع " تعاسة وشقاءأ . أنهى احمد عامه الاول في الجامعة ، غمره الشوق لوالديه في الصيف ، حضر لزيارتهم ، لكنه صُعق عند مركز الحدود والجوازات للتحقيق معه عن اسباب سفره الى مصر وقدومه للبلاد، آنذاك كانت الأخوة والود بين البلاد العربية متلاشية ، وبين مصر وغيرها من الدول العربية كانت العلاقات في مطلع الستينات من القرن الماضي متوترة وغير اعتيادية .
اسمك : احمد ، اسم والدك : مطاوع ،عمل والدك : عجن الطين وصب الطوب ، ما اسباب سفرك الى مصر : الدراسة ، يا كلب ما في مكان اخر تدرس فيه غير مصر ، حُجز جواز سفره وفرضت عليه الاقامة الجبرية ، وطلب منه مراجعة الدوائر الامنية يوميأ لاثبات حضوره .
مُنع احمد من السفرللالتحاق بجامعته، بحجة ان الهدهد قد سَربَ معلومات عنه، انه يدرس في كلية معظم طلابها حزبيون ، ومؤيدون لسياسة مصراتجاه العديد من الدول العربية .
بقي " مطاوع " يعجن الطين ويعجن معها حرقة قلبه ومرارة عيشه ، واحمد يجلس القرفصاء قبالته معظم اليوم ، يقضم حزنه وفقره ، حزن هلامي سيطر على كل مسامه ، الاب الحزين على ابنه َكفّ عن طلب مساعدته في احضار اكياس التبن او دلاء الماء ، الوالدة قابعة داخل الغرفة السوداء مثل الشبح ، والوالد يرتشف حبات العرق المتصبب من جبينه تحت الكوفية ،ينظر احمد لوالده وهو ينهار كبنيان متصدع ، بينما الصمت عالمه ، والشقاء دنيا والده ، والعجز حياة والدته ،يتمنى لو لم يُخلق ، او تنشق الارض لتبتلعه، ، لو كان الامر بيده لحرق العالم كله وحوله الى رماد ، ، اسودت الدنيا في عينيه ، الهدهد قضى على كل فرصة له في الحياة كان يتمنى تحقيقها ، تمنى قتلُ او حرقُ كل الطيور في العالم بما فيها الهدهد . ماتت والدته، ومات معها سنده الضعيف ،وأمله في مساعدتها وانتشالها من بحيرة اللون الاسود القابعة فيها ،احمد انتكس وفقد اعصابه ووهنت انسانيته ، لم يعد قادرأ عمل شيىء سوى رغبته الجامحة في العودة للجامعة ، كل يوم يبكي بكاءأ موجعأ ... بكاء المقهور ... المظلوم ، يردد في داخله: ما الذنب الذي اقترفته في الجامعة ؟ يكلم نفسه دون ان يسمعه أحد : انا ضحية السياسة ، ضحية العدواة بين بلدين ، يكرر ذلك كل يوم وكل ساعة ، وكل ليلة،حتى بدأ يهذي بشيىء من الجنون ، أخذ يحرث امام منزله جيئة وذهابا ،على مرآى من عيني والده ، الذي حاول ان يطفىء لظى قلبه المحترق عليه بجبل الطين ، كما جبل القهر والظلم وحيده احمد، داسته عجلات الحياة وجارَ عليه الهدهد ، يقضي احمد يومه يمشي كبندول الساعة امام داره واضعأ يديه في جيوبه ، يتحرك في خط مستقيم، حتى تلاشى احساسه بالوقت امام البيت كثور الساقية ، فقد شهيته للطعام ، سكت عن الكلام كالاخرس ، غرق في صمت محيطي ، طالت لحيته ، واتسخت ملابسه بالسناج ، تفوح منها هبات من رائحة الخشب المحترق ، عندما يحل الظلام يدخل احمد الغرفة فيمتزج لونهما، وعند الصباح استيقظ احمد كالعادة ،لكن مطاوع لم يقم من فراشه ،وبقي الطين المجبول من غير صب ، ترك احمد تجتره اكياس التبن وعجين الطين ، العذاب والالم الملازمان له ليلا ونهارأ يطحناه ، والطوب الجاف بقي على باب الدار سطرا سطرا ، وسكت مطاوع للابد .
أَمطرَ الأسى ايامه بمزيد من الانزواء والانسحاب من واقعه ، موت والده عذبه وسحبه للوراء بشدة ، لكن عذابه الاكبر فقدِ الامل والرجاء بالحياة ، لم يعد له حرية ، أحس بشيىء غريب حتى وهو فاقد الوعي بواقعه، انه المذنب الذي قتل والديه، لعجزه تقديم ما يخلصهما من الفقر والبؤس والطين والغرفة السوداء . بقي احمد يحرث الارض امام البيت يسلك الخط المستقيم ، الذي رسمه لخطواته ، جيئة وذهابأ من الفجر حتى منتصف الليل، حتى غدا هيكلأ بشريأ متداعيأ ، يفتح باب الدار المتهالك ، يدخل الغرفة السوداء ، يفتش بلا وعي ٍعن والديه، يخرج للشارع مروعأ مهرولأ ،يمشي خطواته ليبدد بقايا يومه ، يرفض اية مساعدة من الجيران لصعوبة حالته، لفظته الايام بعد ان التقمه الحزن والاحباط والفقر والهدهد
إنكمشَ احمد ونحل جسده يومأ بعد يوم ، تهالك كجدران متصدع ، لتوقفه عن الاكل والشرب ، انزوى في الغرفة السوداء التي غاب عنها والديه ، إفتقده الجيران وأفتقدوا ظله امام الدار ، وجدوه غارقأ في الموت جثة هامدة ، مات احمد دون ان يحقق الهدهد هذه المرة في سبب وفاته .